(1)
لم تكن تعرف أن الحب يخترق
أزهار القلوب كما تخترق النجوم السماء لتسكن بها، فإن تركتها النجوم أظلمت، وإن
ابتعدت عنها السماء هوت وتشتت. هكذا دق الحب قلبها وكأنه نجمة متلألئة تحتاج أن
تسكن قلبها.. جنين يخترق رحم أمه ليستقر به، فتستقبله بفرحة الغزاة المنتصرين..
وفي كل لحظة تظل تسترق السمع، وبأيديها تتحسسه وهو يكبر وينمو بداخلها، وفي هذا
كله تعاني من متاعبه. فالرجال في مجتمعنا لا يعرفون سوى لغة الكبرياء والغرور.
فبمجرد أن يشعر الرجل أن هناك امرأة تحبه، وجد نفسه أمامها الفارس المغوار، وعليه أن
يتحكم كملك لم تنجبه الأرض ولم تقهره قلوب النساء. فيظل يقترب ويبتعد لتظل دائما
مشغولة به. تتحسسه برحمها، وقلبها يخفق ينتظر ولادته وإعلانه للجميع حبيبا لها.
إنه الحب الذي ظلت تبحث عنه منذ نعومة أظافرها،
فظلت تبحث عنه في وجه أبويها وأصدقائها. إنه الحنان
الذي افتقدته.. والاهتمام الذي تفننت لإيجاده.. فتارة تصطنع المرض لتجد أصدقاءها
حولها، وتارة تتفنن في الجمال لتجد المعجبين.. وأحياناً كثيرة كانت تلفت الانتباه بعلمها
وثقافتها. إنه الحب الذي كان يتدفق بين عروقها كتدفق الدم، تتبرع به لكل من حولها
فتساعد الأصدقاء والأخوات وكل من حولها، فقط لتنتظر ابتسامة عابرة على وجه الآخرين،
لتنتظر اهتمامًا وحبًا متبادلًا.. لكنها في كل مرة كانت تكتشف أن ما تفعله ما هو إلا
سذاجة، وأنه لا أحد يقدّر ما تفعله، ولا أحد يهتم بها كما تهتم هي.
ورغم هذا كله كانت متعتها
الوحيدة في مساعدتهم.. في أن تري أحدهم يتصل بها. لا لأنه يطمئن عليها، بل لأنه
يحتاج شيئًا منها. وبدون أي تفكير تجد نفسها تنفذ له مطالبه، وتهتم به أكثر من
اهتمام سائلها بمطلبه. وينفجر عقلها في البحث عن كيفية مساعدته، وأي الطرق أبسط وأسرع.
وما أن وصلت لفترة المراهقة
وأصبح مفهوم الحب لديها مرتبطًا بحنان واهتمام يُقدَّم إليها مِن ذَكَر. ذكرٌ يشعر
بها ويلمس ذالك الجزء الغارق من مشاعرها، ويقرر أن يبادلها الحب، كأي أنثى ظلت
تبحث عن ذلك المغوار الذي يهديها مشاعره، فوجدت منه العشرات يلاحقونها بنظرات الإعجاب
وكلمات الهيام. وفي كل مرة كانت تحب -أو تظن أنها أحبت- تجد أن شيئًا ما ناقصًا.
ليس هذا ما تحلم به.. ليس هذا هو الحنان الذي طالما اشتاقت له.. ليس هذا هو الحب
الذي راودها ليلاً في أحلامها، في أساطير الحب الخالدة. ألهذه الدرجة تشتاق لأحد
يفهمها.. يشعر بها.. يفجر قلبها ويقشعر جلدها في لحظات الصمت أكثر من لحظات
الكلام.
ولكنها في كل قصة كانت تتفانى
في أن تكون هذه قصتها، وأن يكون هذا حبيبها. لكن رجالنا لا يقومون بشيء سوى الكلام..
الكلام فقط بلا إحساس.. وكأن الأنثى بالنسبة لهم شيئان؛ أذن ورحم يقذفون فيهما أحاديثهما
الصماء.
وما أن تنتهي القصة، حتى تجد
نفسها بلا شوق.. بلا رغبة في البقاء، أو محاولة البقاء.
كانت تتأكد كل مرة أنه ليس الحب الذي تحلم به! إنه ليس
فارسها الذي حارب ألاعيب الجن ليصل إليها! فقد صوروا لنا الحبيب في القصص القديمة أنه
هو الفارس الذي لا يخاف.. الفارس الذي يملك أن يحارب من أجل الوصول إلى حبيبته،
ويقاتل من أجل الدفاع عنها. ثم يقبل عليها حاملًا سيفه، لينتشلها من نومها العميق
الذي قدمته لها الساحرة الشريرة في تفاحتها المسمومة، ينشلها من كل هذا بقبلة
طويلة يملؤها الدفء، فتصحو الأميرة وقد ارتاح قلبها.
سحقًا أيتها الأساطير! فلا يوجد
فارس يحارب، ولا توجد قبلة تنقذ الأميرة!
وبينما هي تبحث في الوجوه عن حبيب لها، يكذب أفكارها
ويحقق أسطورتها، وجدت رعشة القلب في خطفة نظر كانت قد جمعت العينين في لحظة خاطفة،
استطاعت هي أن تبحر بهما رغم قلة الثواني التي نظرت إليه فيها، وكأن تلك الأعين من
بين المئات استطاعت أن تفهمها وأن تشعر بالحب النابض بقلبها.. تمنت أن يكون هذا
الشخص حبيبها، وأن تتلذذ بالغرق في بحور عينيه اللامعتين.
(2)
(لؤي). هكذا ينادونه. وقد أخذ
من اسمه بريقًا يلمع في عينيه. فهو شاب وسيم الطلعة، ليس بالطويل البائن ولا
بالقصير المتردد. ضخم الرأس، ذو شعر رَجِل مصفر لونه. أخضر العينين، تشوب بياضهما
في الجوانب حمرة خفيفة، وتزيد في قوة جاذبيتهما وذكاء نظرتهما أهداب طوال، مستوي
الأنف دقيقه، كث اللحية صفراء اللون، طويل العنق، يسير ملقيًا جسمه إلى الأمام،
مسرع الخطو ثابته، وعلى ملامحه سيما التفكير، وفي نظرته سلطان الأمر الذي يخضع
الناس لأمره. يسير في غرور الأسد المختال، قليل الكلام يقترب للغموض، فهو لا يقدم
معلومة أو يفشي سرًا ولا يظهر إحساساً إلا لمن يريد، وفي الوقت الذي يريده.
وجدَت بهذه التفاصيل فارس الأحلام.
ففارس أحلامها يختلف عن العديد من الفتيات، فهي تعشق الجمال، والعيون الخضراء تجد
بهما جاذبية. ولعل ما وجدته من جماله ليس بالعيون الخضراء، وإنما بالإحساس الذي
يبحر فيهما. فكل نظرة من عينه بحر من كلام يتدفق بقلبها. فلحظات الصمت معه أروع من
آلاف الكلمات الجوفاء التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
وها هو (كيوبيد) يضرب بسهامه في
لحظات، ليَشعر الاثنان رعشة اللقاء، وتتخدر على شفتيهما الكلمات، وتخرج كعبير
الورود تملأ الدنيا بأغاني الحب الجميلة.
يقفان وسط الناس وكأنهم افترشا
الدنيا وحدهما، فلا هما يشعران بالناس، ولا يحملان للزمن همًّا. فقط يحاولان اختلاس
النظرات التي يرتجف لها قلبهما. يتبادلان أعذب كلمات العشق في صمت ﻻيسمعه غيرهما.
يفهمان بعضهما وكأنهما تعارفا منذ زمن بعيد.
كأن الحياة نعيشها مرتين. فكثيرًا
منا يراودهم أنهم زاروا نفس المكان، أو قابلوا أشخاصًا.. وهم في الحقيقة لم
يقابلوهم في هذه الحياة الدنيا من قبل، وإنما هي ومضات تلقيها الروح الهائمة بين
ملكوت السماوات والأرض. تقابل أحباءها وترتعب من أعدائها، وتنزل علينا بإشارات
غامضة تجعلنا نشعر أننا رأينا هؤلاء الأفراد من قبل، أو مررنا بنفس الأحداث. فمع
كل علمنا عن الحياة ﻻزال الغموض يعتليها، وكأن الله أقسم ألا يعطي كامل سره لمخلوق!
رأته وكأنها تعرفه وتنتظره منذ ولادتها،
وهو أيضًا شعر بتلك المشاعر النابضة في قلبها،
وقرر أن يصارحها بمشاعره.
سار إليها متباطئًا بخطى ثابتة،
تملئها الثقة، ويعرقلها التردد. وفي عينه بحور الكلام المتدفق، وعلى ملامحه قلق من
خزي اللقاء. اقترب منها وهمس في أذنيها يعرِّفها بنفسه، ولم تكن بحاجة لهذه
التفاصيل، فقد عرفته.. عرفته حتى قبل أن تولد! إنه نصفها الثاني التي خلقت من ضلعه..
وها هم يتلاقيان في أروع صدفة يمكن أن تجمع آدم وحواء.. إنه يوم عرفات، وستعلنه
عيدًا للعالم. ستؤسس دستورًا يعلنه، وتقر قانونًا فيه بالإفطار.. الإفطار على الحب..
على الحياة.
طلب منها أن تهديه قلبها ليحفظه بين جوارحه،
وبدون أن تدري كيف استجمعت قواها، وكيف أخْفت هذا
الارتباك الكاسي ملامحها، سلمت له قلبها وآمنته عليه. وبدموع الخاشعين تركت له نفسًا
تجول في محراب عينيه، وقلباً يخضع في عظمة حضرته.
(3)
فرشت له قلبها وسادة يتربع عليها وكأنه طفلها المدلل.
كانت سعادتها عندما يلتقيان لقاءهما العذري لترمي برأسها على كتفيه. فهي في
الحقيقة لا ترمي فقط برأسها، ولكنها ترمي بهمومها وأوجاعها. فهو هادئ الطباع، ثابت
البنية، يخفي بين ضلوعه حنانًا لم تره من قبل. وتمر الساعات وهي ملقية برأسها بين
كتفيه، وكأنها ألقت نفسها في بحر من الهذيان.. بحر عميق لا تستطيع أن تقاومه، أو لا
تريد أن تقاومه. فبين يديه شعرت -ولأول مرة- بهذا الأمان الذي يمنحه الذكَر لأنثاه،
والحنان الذي يقدمه الحبيب لمحبوبته، والدفء الذي تعطيه الأسرة لطفلها.
كانت عيناهما هما اللسان الطليق
الذي يتحدث بأروع العبارات.. وفي حضرتهما يتوقف دور اللسان عن العمل. فما الحاجة
لثرثرة اللسان طالما أنهم يتحدثون بلغة أعمق؛ لغة العاشقين؟! فالعاشقون وحدهم هم
الذين يستطيعون العبور فوق الكلمات الروتينية.. العاشقون وحدهم من يقدرون لغة الصمت
وكلام الأعين، وكأنهم يتخطون حواجز الدنيا الواهية ليصلون لبرزخ الروح، البرزخ
الذي لا حاجة للأشياء المادية به، يكفي التقاء الروحين في هالة من الحب والفرح.
وحالة الهذيان هذه هي التي تصل بهما لبرزخ الأرواح، فلا كلام يفيد، ولا جسد يغني.
إنه الحب العذري.. حب الروح
للروح.. أو الحب لمجرد الحب، بدون أي مصالح أو شهوات دنيوية، أو غواية للجسد. فالجسد
في هذا الحب لا وجود له وسط برزخ الأرواح.
واصلا الليل بالنهار حديثًا لا
ينقطع. ارتشفته كقطرة ماء تروي بها ظمأها وتمنحها القدرة على الحياة، فمنذ أن أعلنت
الصيام عن كل ملذات الدنيا، كان هو إفطارها الوحيد الذي تتغذى عليه فلا ترى رجلًا
غيره. وكأن الرجال جميعهم تجمعوا ليكونوا حبيبها، ولا معنى للحياة بدونه، ولا طعم
لسعادة تتذوقها وحدها.
ملآ الدنيا بعبيرهما، وراحا
ينشراه من مكان إلى مكان. ففاقت الزهور من خمولها، وتراقصت مع نسيم عبيرهما رقصة
الحياة. وكانت الطيور هي (المايسترو) الذي يعزف بأعذب (سيمفونية) على مر العصور.
وبين هذه الحياة الخالصة، كانا
هناك يطيران.. يتحدثان.. يتسامران.. لا يعرفان وقتًا ولا زمنًا. ففي عالمهما توقفت
الشمس عن الدوران، وخرجت على الدنيا بنورها، فلا مجال لليلٍ أو فصول. إنها جنة
الخلد.. شمس بلا حمية.. غسق دائم يقرب العاشقين ولا يفرقهم.. ونسائم معطرة لا هي
برد قارس، ولا حر ﻻفح، ولا ريح عاصف.. فقط نسائم معطرة بعبير الزهور المتراقصة.
وحبات مطر متلألئة تلمع على أغصان الأشجار، وكأنها رحمات الله يهديها لمن أحب. فالله
خلق الدنيا بالحب.. وقرب النفوس بالحب.. وعرف الحياة بالحب. صور نفسه في كل
الديانات بأعظم صورة جمالية يمكن أن تصور. فهو النور
والمحبة، والشيطان هو النار التي تقف لنا بالمرصاد.. تمنعنا من الوصول للحب فيملأ
قلوب العباد بالحقد والكراهية والطمع. يجعلهم يتفرقون.. يحاربون.. يقتلون من أجل
مصطلحات السلطة والقوة.. مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان. فسلطان الحياة والقوة
لله وحده، وما خلقنا إلا لنعبده بحب، لكن الشيطان أقسم أن يفرقنا بعناده.. يفرقنا
بالأعراف. وما الأعراف إلا قوانين وضعها الإنسان ليبرر بها حماقاته. فيبرر قتله
بالثأر بالعرف.. يبرر وأده للبنات بالعرف.. يُكفِّر من يخالفوه الرأي بالعرف..
ويقيم الحدود بالعرف. فسحقًا لهذه الأعراف التي تقتل وتكفر وتحقد، بمبرراته.
وهكذا استطاعت الأعراف أن
تخرجهما من الجنة. فمن أعراف مجتمعاتنا أن الحب جريمة، أما القتل، والحقد، والخيانة،
والتجسس، والتكفير؛ فضرورة للبقاء!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق